فضاء حر

الفساد في كل مكان…

يمنات

غازي الجابري

عبارة تتردد على ألسنة الناس كل يوم، وكأنها قدر مكتوب لا مفرّ منه، وكأن البشر وُلدوا ليعيشوا في عالمٍ ملوثٍ بالظلم والغش والخداع. لكن الحقيقة أن الفساد لا يبدأ في المكاتب الكبرى، ولا في المؤسسات الحكومية، بل يبدأ من لحظة صغيرة، من سلوكٍ بسيط نبرّره لأنفسنا: “الكل يفعل ذلك”، “مجرد مرة واحدة”، “لن يلاحظ أحد”.

وهكذا، يتحول الخطأ الفردي إلى ثقافة جماعية، ويتحوّل الصمت إلى مشاركة، والتبرير إلى تواطؤ.

الفساد لا يعيش في الأوراق الرسمية فقط، بل يسكن في العقول التي فقدت الإحساس بالحق، وفي القلوب التي لم تعد ترى في الظلم ذنبًا.

حين يمدّ أحدهم يده ليأخذ ما ليس له، أو يزوّر شهادة، أو يبيع ضميره مقابل منفعة مؤقتة، فإنه لا يفسد فقط مؤسسةً أو نظامًا، بل يضرب في عمق المجتمع، في الثقة، في العدالة، في المستقبل.

إنّ أخطر أنواع الفساد هو ذاك الذي يتنكر في ثوب النظام، حين يصبح الظالم صاحب سلطة، والفاسد قدوة، والمخلص غريبًا يُتهم بالغباء لأنه ما زال يؤمن بالنزاهة.

في مثل هذه البيئات، يموت الأمل ببطء، ويتحول الصالحون إلى صامتين، ثم إلى محايدين، ثم إلى لا مبالين، وحينها فقط ينتصر الفساد فعلاً، لا لأنه أقوى، بل لأن النور تراجع خطوة بعد خطوة.

ومع ذلك، ما زال هناك بصيص ضوء…

ما زال هناك من يرفض، من يقف بوجه التيار، من يقول “لا” في زمن تُباع فيه الكلمة وتشترى المواقف.

هؤلاء هم الشرفاء الحقيقيون الذين لا يحتاجون إلى منابر ولا أضواء، يكفيهم أنهم أنقياء من الداخل، يسيرون ضد التيار، ويحملون في قلوبهم يقينًا بأن الحق وإن تأخر، فهو لا يموت.

الفساد في كل مكان؟ ربما.

لكن الخير أيضًا في كل مكان.

قد لا يعلو صوته كثيرًا، لكنه موجود في تلك الأم التي تربي أبناءها على الأمانة، وفي العامل الذي يؤدي عمله بإخلاص، وفي القاضي الذي لا يبيع حكمه، وفي الإنسان البسيط الذي يختار أن يكون نزيهًا حتى لو خسر.

الفساد ينتشر حين نستسلم، وينحسر حين نُصلح أنفسنا.

فالإصلاح لا يبدأ من القوانين ولا من الشعارات، بل من الضمير… من تلك الرقابة الخفية التي لا تحتاج إلى كاميرات ولا إلى شرطة، لأنها تسكن داخلنا، وتوقظنا كلما حاولنا أن ننحرف عن الطريق.

زر الذهاب إلى الأعلى